فصل: تفسير الآيات رقم (1- 8)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


سورة الشعراء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ‏(‏5‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏6‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏طسم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏{‏طسم‏}‏ بفتح الطاء وإِدغام النون من هجاء «سين» عند الميم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبان، والمفضل‏:‏ ‏{‏طسم‏}‏ و‏{‏طس‏}‏ ‏[‏النمل‏]‏ بامالة الطاء فيهما‏.‏ وأظهر النون من هجاء «سين» عند الميم حمزة هاهنا وفي ‏(‏القصص‏)‏‏.‏ وفي معنى ‏{‏طسم‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها حروف من كلمات، ثم فيها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ ‏[‏ما‏]‏ رواه عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال‏:‏ ‏"‏ لما نزلت ‏{‏طسم‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الطاء‏:‏ طور سيناء، والسين‏:‏ الاسكندرية، والميم‏:‏ مكة» ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ ‏[‏أن‏]‏ الطاء‏:‏ طَيْبَة، وسين‏:‏ بيت المقدس، وميم‏:‏ مكة، ‏[‏رواه الضحاك عن ابن عباس‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ الطاء شجرة طوبى، والسين‏:‏ سدرة المنتهى، والميم‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، قاله جعفر الصادق‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ وقد بيَّنَّا كيف يكون مثل هذا من أسماء الله تعالى في فاتحة مريم‏.‏ وقال القرظي‏:‏ أقسم الله بطَوْلِه وسَنائه ومُلكه‏.‏

والثالث‏:‏ انه اسم للسُّورة، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة، وأبو روق‏.‏ وما بعد هذا قد سبق تفسيره ‏[‏المائدة‏:‏ 15، الكهف‏:‏ 6‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ألاَّ يكونوا مؤمنين‏}‏ والمعنى‏:‏ لعلّك قاتل نفسك لتركهم الإِيمان‏.‏

ثم أخبر أنه لو أراد أن يُنزل عليهم ما يضطرهم إِلى الإِيمان لفعل، فقال‏:‏ ‏{‏إِن نَشَأْ نُنَزَّلْ‏}‏ وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل‏:‏ ‏{‏إِن يَشَأْ يُنَزِّلْ‏}‏ بالياء فيهما، ‏{‏عليهم من السماء آية فظلَّت أعناقُهم لها خاضعين‏}‏ جعل الفعل أولاً للأعناق، ثم جعل «خاضعين» للرجال، لأن الأعناق إِذا خضعت فأربابها خاضعون‏.‏ وقيل‏:‏ لمّا وصف الأعناق بالخضوع، وهو من صفات بني آدم، أخرج الفعل مخرج الآدميِّين كما بيَّنَّا في قوله‏:‏ ‏{‏والشمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدِين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏، وهذا اختيار أبي عبيدة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فظلَّت‏}‏ معناه‏:‏ فتَظَلُّ، لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى المستقبل، كقولك‏:‏ إِن تأْتني أكرمتُكَ، معناه‏:‏ أُكْرِمْكَ؛ وإِنما قال‏:‏ ‏{‏خاضعِين‏}‏ لأن خضوع الأعناق هو خضوع أصحابها، وذلك أن الخضوع لمَّا لم يكن إِلا بخضوع الأعناق، جاز أن يخبر عن المضاف إِليه، كما قال الشاعر‏:‏

رَأتْ مَرَّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي *** كمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ

فلما كانت السّنون لا تكون إِلا بمَرٍّ، أخبر عن السنين، وإِن كان أضاف إِليها المرور‏.‏ قال‏:‏ وجاء في التفسير أنه يعني بالأعناق كبراءَهم ورؤساءَهم‏.‏ وجاء في اللغة‏:‏ أن أعناقهم جماعاتهم؛ يقال‏:‏ جاءني عُنُق من الناس، أي‏:‏ جماعة‏.‏ وما بعد هذا قد سبق تفسيره ‏[‏الأنبياء‏:‏ 2‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏أَولَم يَرَو إِلى الأرض‏}‏ يعني المكذِّبين بالبعث ‏{‏كم أَنْبَتْنَا فيها‏}‏ بعد أن لم يكن فيها نبات ‏{‏من كُلِّ زوج كريم‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ من كل جنس حسن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الزوج‏:‏ النوع، والكريم‏:‏ المحمود‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ في ذلك‏}‏ الإِنبات ‏{‏لآيةً‏}‏ تدل على وحدانية الله وقُدرته ‏{‏وما كان أكثرُهم مؤمنين‏}‏ أي‏:‏ ما كان أكثرهم يؤمِن في عِلْم الله، ‏{‏وإِنَّ ربَّك لَهوَ العزيز‏}‏ المنتقِم من أعدائه ‏{‏الرَّحيمُ‏}‏ بأوليائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 22‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ‏(‏11‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏12‏)‏ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏14‏)‏ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏17‏)‏ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ‏(‏18‏)‏ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏20‏)‏ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏21‏)‏ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ نادى‏}‏ المعنى‏:‏ واتل هذه القصة على قومك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يُكَذِّبونِ‏}‏ ياء ‏{‏يُكَذِّبِونِ‏}‏ محذوفة، ومثلها ‏{‏أن يقتلون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 14‏]‏ ‏{‏سيهدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 62‏]‏ ‏{‏فهو يدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78‏]‏ ‏{‏ويسقين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 79‏]‏ ‏{‏فهو يشفين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏ ‏{‏ثم يحيين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 81‏]‏ ‏{‏كذَّبون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 117‏]‏ ‏{‏وأطيعون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 108‏]‏ فهذه ثمان آيات أثبتهن في الحالين يعقوب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَضيقُ صَدْري‏}‏ أي بتكذيبهم إِيّاي ‏{‏ولا يَنْطَلِقُ لساني‏}‏ للعُقدة التي كانت بلسانه‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏ويَضيقَ‏}‏ ‏{‏ولا يَنطلقَ‏}‏ بنصب القاف فيهما، ‏{‏فأَرسِلْ إِلى هارونَ‏}‏ المعنى‏:‏ ليُعينني، فحُذف، لأن في الكلام دليلاً عليه، ‏{‏ولهم عليَّ ذَنْب‏}‏ وهو القتيل الذي وكزه فقضى عليه؛ والمعنى‏:‏ ولهم عليَّ دعوى ذَنْب ‏{‏فأخافُ أن يقتُلون‏}‏ به ‏{‏قال كَلاَّ‏}‏ وهو ردع وزجر عن الإِقامة على هذا الظن؛ والمعنى‏:‏ لن يقتلوك لأنّي لا اسلِّطهم عليك، ‏{‏فاذهبا‏}‏ يعني‏:‏ أنت وأخوك ‏{‏بآياتنا‏}‏ وهي‏:‏ ما أعطاهما من المعجزة ‏{‏إِنَّا‏}‏ يعني نفسه عز وجل ‏{‏معكم‏}‏ فأجراهما مجرى الجماعة ‏{‏مستمِعونَ‏}‏ نسمع ما تقولان وما يجيبونكما به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا رسولُ ربِّ العالَمين‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الرسول يكون بمعنى الجميع، كقوله‏:‏ ‏{‏هؤلاء ضَيفي‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 68‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُخْرِجُكم طِفْلاً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ إِنْا رِسالةُ ربِّ العالَمين، أي‏:‏ ذوو رسالة ربِّ العالمين، قال الشاعر‏:‏

لقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما بُحْتُ عِنْدَهُم *** بِسرٍّ وَلا أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ

أي‏:‏ برسالة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن أرسِلْ‏}‏ المعنى‏:‏ بأن أرسل ‏{‏معنا بني إِسرائيل‏}‏ أي‏:‏ أَطْلِقْهم من الاستعباد، فأَتَياه فبلَّغاه الرسالة، ف ‏{‏قال ألم نُرَبِّكَ فينا وَليداً‏}‏ أي‏:‏ صبيّاً صغيراً ‏{‏ولَبِثْتَ فينا مِنْ عُمُرِكَ سِنينَ‏}‏ وفيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ثماني عشرة سنة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أربعون سنة، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ ثلاثون سنة، قاله مقاتل، والمعنى‏:‏ فجازيْتَنا على ان ربَّيناك أن كفرت نعمتنا، وقتلت منّا نفساً، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ‏}‏ وهي قتل النفس‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإِنما نُصِبَت الفاء، لأنها مرة واحدة، ولو أُريد بها مثل الجِلسة والمِشية جاز كسرها‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأنت من الكافرين‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ من الكافرين لنعمتي، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ من الكافرين بالهك، كنتَ معنا على ديننا الذي تعيب، قاله الحسن، والسدي‏.‏ فعلى الاول‏:‏ وأنت من الكافرين الآن‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ وكنت‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأنا من الضالِّين‏}‏ ثلاثة أَقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من الجاهلين، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ المعنى‏:‏ إِني كنت جاهلاً لم يأتني من الله شيء‏.‏

والثاني‏:‏ من الخاطئين؛ والمعنى‏:‏ إِني قتلت النفس خطأً، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ من الناسين؛ ومثله ‏{‏أن تَضِلَّ إِحداهما‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، قاله أبو عبيدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففرَرتُ منكم‏}‏ أي‏:‏ ذهبت من بينكم ‏{‏لمَّا خِفْتُكم‏}‏ على نفسي إلى مَدْيَنِ، وقرأ عاصم الجحدري، والضحاك، وابن يعمر ‏{‏لِمَا‏}‏ بكسر اللام وتخفيف الميم، ‏{‏فوهَب لي ربِّي حُكْماً‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ النبوَّة، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ العِلْم والفَهم، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك نِعمة تَمُنُّها عليَّ‏}‏ يعني التربية ‏{‏أنْ عَبَّدْتَ بني إِسرائيل‏}‏ أي‏:‏ اتخذْتَهم عبيداً؛ يقال عبَّدتُ فلاناً وأعبدتُه واستعبدتُه‏:‏ إِذا اتخذتَه عبداً‏.‏

وفي «أنْ» وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن تكون في موضع رفع على البدل من «نِعْمةٌ»‏.‏

والثاني‏:‏ أن تكون في موضع نصب بنزع الخافض، تقديره‏:‏ لأَن عبَّدتَ أو لتعبيدك‏.‏

واختلف العلماء في تفسير الآية، ففسرها قوم على الإِنكار، وقوم على الإِقرار‏.‏ فمن فسرها على الإِنكار قال معنى الكلام‏:‏ أو تلك نعمة‏؟‏‏!‏ على طريق الاستفهام، ومثله ‏{‏هذا ربِّي‏}‏ ‏[‏الانعام‏:‏ 76‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فهم الخالدون‏}‏ ‏[‏الانبياء‏:‏ 34‏]‏، وأنشدوا‏:‏

‏[‏لم أنس يوم الرحيل وقفتَها *** وجفنها من دموعها شَرِقُ‏]‏

وقولَها والركابُ سائرة *** تتركنا هكذا وتنطلق

وهذا قول جماعة منهم‏.‏ ثم لهم في معنى الكلام ووجهه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن فرعون أخذ أموال بني إِسرائيل واستعبدهم وأنفق على موسى منها، فأبطل موسى النِّعمة لأنها أموال بني إِسرائيل، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ إِنك لو كنت لا تقتُل أبناء بني إِسرائيل لكفلني أهلي، وكانت أُمِّي تستغني عن قذفي في اليمِّ، فكأنك تمنُّ عليَّ بما كان بلاؤك سبباً له، وهذا قول المبرِّد، والزجّاج والأزهري‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى تمنُّ عليَّ باحسانك إِليَّ خاصة، وتنسى إِساءتك بتعبيدك بني إِسرائيل‏؟‏‏!‏ قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ كيف تمنُّ عليَّ بالتربية وقد استعبدت قومي‏؟‏‏!‏ ومن أُهين قومُه فقد ذَلَّ، فقد حَبِط إِحسانك إِليَّ بتعبيدك قومي، حكاه الثعلبي‏.‏

فأما من فسرها على الإِقرار، فانه قال‏:‏ عدَّها موسى نعمة حيثُ ربَّاه ولم يقتله ولا استعبده‏.‏ فالمعنى‏:‏ هي لعمري نعمة إِذ ربَّيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إِسرائيل؛ ف «أنْ» تدل على المحذوف، ومثله في الكلام- أن تَضرب بعض عبيدك وتترك الآخر، فيقول المتروك-‏:‏ هذه نعمة عليَّ أن ضربتَ فلاناً وتركتني، ثم تحذف «وتركتني»، لأن المعنى معروف، هذا قول الفراءِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 28‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ‏(‏27‏)‏ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فرعونُ وما ربُّ العالَمين‏}‏ سأله عن ماهيَّةِ مَنْ لا ماهيَّة له، فأجابه بما يدلُّ عليه من مصنوعاته‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ كنتم موقِنين‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنّه خَلَقَ السموات والأرض‏.‏

والثاني‏:‏ إِن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه، فكذلك، فأيقنوا أن ربَّ العالمين ربُّ السماوات والأرض‏.‏ ‏{‏قال‏}‏ يعني‏:‏ فرعون ‏{‏لِمَنْ حوله‏}‏ من أشراف قومه ‏{‏ألا تَستمعونَ‏}‏ معجِّباً لهم‏.‏

فان قيل‏:‏ فأين جوابهم‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه أراد‏:‏ ألا تستمعون قول موسى‏؟‏ فردَّ موسى، لأنه المراد بالجواب، ثم زاد في البيان بقوله‏:‏ ‏{‏ربُّكم وربُّ آبائكم الأوَّلِين‏}‏، فأعرض فرعون عن جوابه ونسبه إِلى الجنون، فلم يَحْفِل موسى بقول فرعون، واشتغل بتأكيد الحُجَّة، ف ‏{‏قال ربُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بينهما إِن كنتم تَعْقِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ إِن كنتم ذوي عقول، لم يَخْفَ عليكم ما أقول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 48‏]‏

‏{‏قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏32‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏33‏)‏ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏35‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏36‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ‏(‏37‏)‏ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏38‏)‏ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ‏(‏39‏)‏ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏40‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏41‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏43‏)‏ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏45‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوَلَوْ جِئْتُكَ بشيءٍ مُبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ بأمر ظاهر تعرف به صدقي أتسجنني‏؟‏‏!‏ وما بعد هذا مفسر في ‏[‏الأعراف‏:‏ 107‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏فجُمِعَ السحرةُ لميقات يوم معلوم‏}‏ وهو يوم الزينة، وكان عيداً لهم، ‏{‏وقيل للناس‏}‏ يعني أهل مصر‏.‏ وذهب ابن زيد إِلى أن اجتماعهم كان بالاسكندرية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلَّنا نتَّبع السَّحَرة‏}‏ قال الاكثرون‏:‏ أرادوا سَحَرة فرعون؛ فالمعنى‏:‏ لعلَّنا نتَّبعهم على أمرهم‏.‏ وقال‏:‏ بعضهم‏:‏ أرادوا موسى وهارون، وإِنما قالوا ذلك استهزاءً‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ و«لعل» هاهنا بمعنى «كي»‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعزَّة فرعون‏}‏ أي‏:‏ بعظمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلسوف تَعْلَمون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ اللام دخلت للتوكيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ضَيْرَ‏}‏ أي‏:‏ لا ضرر‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هو من ضَارَه يَضُوره ويَضيره؛ بمعنى‏:‏ ضَرَّه‏.‏ والمعنى‏:‏ لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا، لأنّا ننقلب إِلى ربِّنا في الآخرة مؤمِّلين غفرانه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنْ كُنَّا‏}‏ أي‏:‏ لأن كنا ‏{‏أوَّلَ المؤمِنين‏}‏ بآيات موسى في هذه الحال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 59‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏52‏)‏ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ‏(‏54‏)‏ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ‏(‏55‏)‏ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏57‏)‏ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكم مُتَّبَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ يَتبعكم فرعون وقومه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هؤلاء‏}‏ المعنى‏:‏ وقال فرعون‏:‏ إِن هؤلاء، يعني بني إِسرائيل ‏{‏لَشِرْذِمَةٌ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ طائفة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والشرذمة في كلام العرب‏:‏ القليل‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وكانوا ستمائة ألف، وإِنما استقلَّهم بالإِضافة إِلى جنده، وكان جنده لا يُحصى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنَّهم لَنَا لَغَائِظُون‏}‏ تقول‏:‏ غاظني الشيء، إِذا أغضبك‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وذُكر أن غيظهم كان لقتل الملائكة من قَتَلَتْ من أبكارهم‏.‏ قال‏:‏ ويحتمل أن غيظهم لذهابهم بالعواري التي استعاروها من حُليِّهم، ويحتمل أن يكون لفراقهم إِياهم وخروجهم من أرضهم على كُره منهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرون‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏حَذِرون‏}‏ بغير ألف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏حاذِرون‏}‏ بألف‏.‏ وهل بينهما فرق‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الحاذر‏:‏ المستعدُّ، والحذر‏:‏ المتيقّظ، وجاء في التفسير أن معنى حاذرين‏:‏ مُؤْدُون، أي‏:‏ ذَوو أداة، وهي السلاح، لأنها أداة الحرب‏.‏

والثاني‏:‏ أنهما لغتان معناهما واحد؛ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال‏:‏ رجل حَذِرٌ وحَذُرٌ وحاذرٌ‏.‏ والمَقام الكريم‏:‏ المنزل الحسن‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ كذلك أفعل بمن عصاني، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ الأمر كذلك، أي‏:‏ كما وصفنا، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأورثناها بني إِسرائيل‏}‏ وذلك أن الله تعالى ردَّهم إِلى مصر بعد غرق فرعون، وأعطاهم ما كان لفرعون وقومه من المساكن والأموال‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ إِنما جعل ديار آل فرعون مُلْكاً لبني إِسرائيل، ولم يَرْدُدْهم إِليها لكنه جعل مساكنهم الشام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 68‏]‏

‏{‏فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏62‏)‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ‏(‏63‏)‏ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ‏(‏64‏)‏ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏65‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏66‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏67‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأَتْبَعُوهم‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ لحقوهم ‏{‏مُشْرِقِين‏}‏ أي‏:‏ حين شَرَقت الشمس، أي‏:‏ طلعت، يقال‏:‏ أشْرَقْنا‏:‏ دخلنا في الشُّروق، كما يقال‏:‏ أمسينا وأصبحنا‏.‏ وقرأ الحسن، وأيوب السَّخْتِياني‏:‏ ‏{‏فاتَّبعوهم‏}‏ بالتشديد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما تَراءى الجمعان‏}‏ وقرأ أبو رجاء، والنخعي، والأعمش‏:‏ ‏{‏تَرِاأَى‏}‏ بكسر الراء وفتح الهمزة، أي‏:‏ تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاّ‏}‏ أي‏:‏ لن يُدركونا ‏{‏إِنَّ مَعِيَ ربِّي سَيَهدين‏}‏ أي‏:‏ سيدلُّني على طريق النجاة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانْفَلَقَ‏}‏ فيه إِضمار «فضرب فانفلق»، أي‏:‏ انشقَّ الماء اثني عشر طريقاً ‏{‏فكان كُلُّ فِرْقٍ‏}‏ أي‏:‏ كل جزءٍ انفرق منه‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏كُلُّ فِلْقٍ‏}‏ باللام، ‏{‏كالطود‏}‏ وهو الجبل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِين‏}‏ أي‏:‏ قرَّبْنا الآخَرين من الغرق، وهم أصحاب فرعون‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏أزلفنا‏}‏ أي‏:‏ جمعنا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وكلا القولين حسن، لأن جمعهم تقريب بعضهم من بعض، وأصل الزُّلفى في كلام العرب‏:‏ القُرْبَى‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء، والضحاك، وابن يعمر‏:‏ ‏{‏أَزْلَقْنَا‏}‏ بقاف، وكذلك قرأوا‏:‏ ‏{‏وأُزْلِقَتِ الجنَّةُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 90‏]‏ بقاف ‏[‏أيضاً‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ في ذلكَ لآيةً‏}‏ يعني‏:‏ في إِهلاك فرعون وقومه عبرة لمن بعدهم ‏{‏وما كان أكثرُهم مؤمنِين‏}‏ أي‏:‏ لم يكن أكثر أهل مصر مؤمنين، إِنما آمنت آسية، وخِربيل مؤمن آل فرعون، وفنّة الماشطة، ومريم امرأة دلَّت موسى على عظام يوسف، هذا قول مقاتل‏.‏ وما أخللنا به من تفسير كلمات في قصة موسى، فقد سبق بيانها، وكذلك ما يُفقد ذِكْره في مكان، فهو إِما أن يكون قد سبق، وإِما أن يكون ظاهراً، فتنبَّه لهذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 82‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ‏(‏71‏)‏ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ‏(‏72‏)‏ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏75‏)‏ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ‏(‏76‏)‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏77‏)‏ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ‏(‏78‏)‏ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ‏(‏79‏)‏ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ‏(‏80‏)‏ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل يَسْمَعُونكم‏}‏ والمعنى‏:‏ هل يَسمعون دعاءكم‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏هل يُسْمِعونكم‏}‏ بضم الياء وكسر الميم، ‏{‏إِذ تَدْعُون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ إِن شئت بيَّنت الذال، وإِن شئت أدغمتها في التاء وهو أجود في العربية، لقرب الذال من التاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يَنْفَعونكم‏}‏ أي‏:‏ إِن عبدتموهم ‏{‏أو يَضُرُّونَ‏}‏ إِن لم تعبدوهم‏؟‏ فأخبروا عن تقليد آبائهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنَّهم عَدُوٌّ لي‏}‏ فيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن لفظه لفظ الواحد والمراد به الجميع؛ فالمعنى‏:‏ فانهم أعداءٌ لي‏.‏

والثاني‏:‏ فان كلَّ معبود لكم عدوٌّ لي‏.‏

فان قيل‏:‏ ما وجه وصف الجماد بالعداوة‏؟‏

فالجواب‏:‏ من وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ فانهم عدوٌّ لي يوم القيامة إِن عبدتُهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه من المقلوب؛ والمعنى‏:‏ فإنِّي عدوٌّ لهم، لأن مَنْ عاديتَه عاداكَ، قاله ابن قتيبة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِلاّ رَبَّ العالَمِين‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه استثناء من الجنس، لأنه عَلِم أنهم كانوا يعبُدون الله مع آلهتهم، قاله ابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه من غير الجنس؛ والمعنى‏:‏ لكن ربّ العالمين ‏[‏ليس كذلك‏]‏، قاله أكثر النحويين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلقني فهو يَهْدِين‏}‏ أي‏:‏ إِلى الرّشد، لا ما تعبُدون، ‏{‏والذي هو يُطْعِمُني وَيَسْقين‏}‏ أي‏:‏ هو رازقي الطعام والشراب‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم قال‏:‏ ‏{‏مرضتُ‏}‏، ولم يقل «أمرضَني»‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه أراد الثناء على ربّه فأضاف إِليه الخير المحض، لأنه لو قال‏:‏ «أمرضَني» لعدَّ قومُه ذلك عيباً، فاستعمل حُسن الأدب؛ ونظيره قصة الخضر حين قال في العيب‏:‏ ‏{‏فأردتُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏، وفي الخير المحض‏:‏ ‏{‏فأراد ربُّكَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهذا يردُّه قوله‏:‏ ‏{‏والذي يُميتني‏}‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن القوم كانوا لا يُنكرون الموت، وإِنما يجعلون له سبباً سوى تقدير الله عز وجل، فأضافه إِبراهيم إِلى الله عز وجل، وقوله‏:‏ ‏{‏ثم يُحيين‏}‏ يعني للبعث‏:‏ ‏[‏وهو‏]‏ أمرٌ لا يُقِرُّون به، وإِنما قاله استدلالاً عليهم؛ والمعنى‏:‏ أن ما وافقتموني عليه موجب لِصِحَّة قولي فيما خالفتموني فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي أَطْمَعُ أن يَغْفِر لي خطيئتي‏}‏ يعني‏:‏ ما يجري على مِثْلِي من الزَّلل؛ والمفسرون يقولون‏:‏ إِنما عنى الكلمات الثلاث التي ذكرناها في ‏[‏الأنبياء‏:‏ 63‏]‏، ‏{‏يومَ الدِّين‏}‏ يعني‏:‏ يوم الحشر والحساب؛ وهذا احتجاج على قومه أنه لا تصلحُ الإِلهية إِلا لِمَنْ فَعَلَ هذه الأفعال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 89‏]‏

‏{‏رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏83‏)‏ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏84‏)‏ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ‏(‏85‏)‏ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏86‏)‏ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ‏(‏87‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَبْ لِي حُكْماً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ النبوَّة، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ اللُّبّ، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ الفَهْم والعِلْم، قاله مقاتل، وقد بيَّنَّا معنى ‏{‏وأَلحِقْني بالصَّالِحِين‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏، وبيَّنَّا معنى ‏{‏لِسَانَ صِدْقٍ‏}‏ في ‏[‏مريم‏:‏ 50‏]‏ والمراد بالآخِرِين‏:‏ الذين يأتون بعده إِلى يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واغفر لأبي‏}‏ قال الحسن‏:‏ بلغني أن أُمَّه كانت مسلمة على دينه، فلذلك لم يذكُرها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد قال‏:‏ ‏{‏اغفر لي ولوالديَّ‏}‏ ‏[‏ابراهيم‏:‏ 41‏]‏‏.‏

قيل‏:‏ أكثر الذِّكْر إِنما جرى لأبيه، فيجوز أن يسأل الغفران لأمِّه وهي مؤمنة، فأما أبوه فلا شك في كفره‏.‏ وقد بيَّنَّا سبب استغفاره لأبيه في ‏[‏براءة‏:‏ 113‏]‏، وذكرنا معنى الخزي في ‏[‏آل عمران‏:‏ 192‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُبْعَثُون‏}‏ يعني‏:‏ الخلائق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ أتى اللّهَ بقلب سليم‏}‏ فيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ سليم من الشِّرك، قاله الحسن، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ سليم من الشَّكّ، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ سليم، أي‏:‏ صحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

والرابع‏:‏ أن السَّليم في اللغة‏:‏ اللديغ، فالمعنى‏:‏ كاللديغ من خوف الله تعالى، قاله الجنيد‏.‏

والخامس‏:‏ سليم من آفات المال والبنين، قاله الحسين بن الفضل‏.‏

والسادس‏:‏ سليم من البدعة، مُطْمئنّ على السُّنَّة، حكاه الثعلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 104‏]‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏90‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ‏(‏91‏)‏ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏92‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏93‏)‏ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ‏(‏94‏)‏ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ‏(‏95‏)‏ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ‏(‏96‏)‏ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏97‏)‏ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏98‏)‏ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏99‏)‏ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ‏(‏100‏)‏ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏102‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأُزْلِفَت الجَنَّة للمُتَّقِينَ‏}‏ أي‏:‏ قًُرِّبَتْ إِليهم حتى نظروا إِليها، ‏{‏وبُرِّزَت الجَحِيمُ‏}‏ أي‏:‏ أُظهرتْ ‏{‏للغاوين‏}‏ وهم الضالُّون، ‏{‏وقيل لهم‏}‏ على وجه التوبيخ ‏{‏أين ما كنتم تعبُدون من دون الله هل ينصُرونكم‏}‏ أي‏:‏ يمنعونكم من العذاب، أو يمتنعون منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكُبْكِبوا‏}‏ قال السّدي‏:‏ هم المشركون‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أُلْقُوا على رؤوسهم، وأصل الحرف «كُبِّبوا» من قولك‏:‏ كَبَبْتُ الإِناء، فأبدَلَ من الباء الوسطى كافاً، استثقالاً لاجتماع ثلاث باءات، كما قالوا‏:‏ «كُمْكِمُوا» من «الكُمَّة»، والأصل‏:‏ «كُمّمُوا»‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ طُرح بعضُهم على بعض؛ وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب، كأنه إِذا أُلقي يَنْكَبُّ مَرَّةً بعد مَرَّة حتى يَسْتَقِرَّ فيها‏.‏

وفي الغاوين ثلاثة اقوال‏.‏

أحدها‏:‏ المشركون، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الشياطين، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ الآلهة، قاله السدي‏.‏ ‏{‏وجنود إِبليسَ‏}‏ أتباعه من الجنّ والإِنس‏.‏ ‏{‏قالوا وهم فيها يَخْتَصِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ هم وآلهتهم، ‏{‏تالله إِنْ كَنَّا‏}‏ قال الفراء‏:‏ لقد كُنَّا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ما كُنَّا إِلا في ضلال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ نُسَوِّيكم‏}‏ أي‏:‏ نعدلِكُم بالله في العبادة، ‏{‏وما أضلَّنا إِلا المُجْرِمُون‏}‏ فيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الشياطين‏.‏

والثاني‏:‏ أولَّوهم الذين اقتَدَوا بهم، قال عكرمة‏:‏ إِبليسُ وابنُ آدم القاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لنا من شافِعِين‏}‏ هذا قولهم إِذا شفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون‏.‏ وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إِن الرجل يقول في الجنة‏:‏ ما فعل صديقي فلان‏؟‏ وصديقه في الجحيم، فيقول الله عز وجل‏:‏ أخرجوا له صديقه إِلى الجنة، فيقول من بقي ‏[‏في النار‏]‏‏:‏ فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ‏"‏‏؟‏‏.‏ والحميم‏:‏ القريب الذي تَوَدُّه ويَوَدُّك والمعنى‏:‏ مالنا من ذي قرابة يُهِمُّه أمرنا، ‏{‏فلو أنَّ لنا كَرَّةً‏}‏ أي‏:‏ رجعة إِلى الدنيا ‏{‏فنكونَ مِنَ المؤمِنِين‏}‏‏.‏ لتَحِلَّ لنا الشفاعة كما حَلَّت للموحِّدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 110‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏105‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏106‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏107‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ القوم مذكَّرون؛ والمعنى‏:‏ كذَّبت جماعةُ قوم نوح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ قال لهم أخوهم نُوحٌ‏}‏ كانت الأُخوَّة من جهة النَّسَب بينهم، لا من جهة الدِّين، ‏{‏ألا تتقون‏}‏ عذاب الله بتوحيده وطاعته، ‏{‏إِنِّي لكم رسول أمين‏}‏ على الرسالة فيما بيني وبين ربِّكم‏.‏ ‏{‏وما أسألُكم عليه من أَجْر‏}‏ أي‏:‏ على الدعاء إِلى التوحيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 116‏]‏

‏{‏قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏112‏)‏ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏114‏)‏ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏115‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّبعكَ الأرذلون‏}‏ وقرأ يعقوب بفتح الهمزة وتسكين التاء وضم العين‏:‏ ‏{‏وأَتْبَاعُكَ الأرذلون‏}‏، وفيهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الحاكَة، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الحاكَة والأساكفة؛ قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ المساكين الذين ليس لهم مال ولا عزٌّ، قاله عطاء‏.‏ وهذا جهل منهم، لأن الصناعات لا تضرُّ في باب الدِّيانات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما عِلْمِي بما كانوا يعملون‏}‏ أي‏:‏ لم أعلم أعمالهم وصنائعهم، ولم أُكلَّف ذلك، إِنما كلِّفتُ أن أدعوَهم، ‏{‏إِنْ حِسَابُهم‏}‏ فيما يعملون ‏{‏إِلا على ربِّي لو تشعُرون‏}‏ بذلك ما عبتموهم في صنائعهم، ‏{‏وما أنا بطارد المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ ما أنا بالذي لا أقبل إِيمانهم لزعمكم أنهم الأرذلون‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لَتكونَنَّ من المرجومين‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من المشتومين، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ من المضروبين بالحجارة، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ من المقتولين بالرَّجم، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 122‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ‏(‏117‏)‏ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏119‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏121‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فافتح بيني وبينهم‏}‏ أي‏:‏ اقض بيني وبينهم قضاء، يعني‏:‏ بالعذاب ‏{‏ونَجِّني ومَنْ معيَ‏}‏ من ذلك العذاب‏.‏ والفُلْك قد تقدم بيانه‏.‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏ والمشحون‏:‏ المملوء، يقال‏:‏ شحنتُ الإِناء، إِذا مَلأْتَه؛ وكانت سفينة نوح قد ملئت من الناس والطير والحيوان كُلِّه، ‏{‏ثم أغْرقنا بعدُ‏}‏ بعد نجاة نوح ومن معه ‏{‏الباقين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 135‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏125‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏126‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ‏(‏128‏)‏ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ‏(‏129‏)‏ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏(‏130‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏131‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ‏(‏133‏)‏ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏134‏)‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏135‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتبنون بكُلِّ رِيع‏}‏ وقرأ عاصم الجحدري، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏بكُلِّ رَيْع‏}‏ بفتح الراء‏.‏ قال الفراء‏:‏ هما لغتان‏.‏ ثم فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه المكان المرتفع؛ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ بكل شَرَف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هو في اللغة‏:‏ الموضع المرتفع من الأرض‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الطريق، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ الفجُّ بين الجبلين، قاله مجاهد‏.‏ والآية‏:‏ العلامة‏.‏

وفيما أراد بهذا البناء ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أراد‏:‏ تبنون مالا تسكنون، رواه عطاء عن ابن عباس؛ والمعنى أنه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثاً‏.‏

والثاني‏:‏ بروج الحمام، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم كانوا يبنون في المواضع المرتفعة ليُشرفوا على المارَّة، فيَسْخَروا منهم ويَعْبَثوا بهم، وهو معنى قول الضحاك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَتَّخِذون مَصَانع‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ قصور مشيَّدة، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ مصانع الماء تحت الارض، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ بروج الحمام، قاله السدي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لعلَّكم تَخْلُدون‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ كأنَّكم تخلُدون؛ قاله ابن عباس، وأبو مالك‏.‏

والثاني‏:‏ كَيْما تَخْلُدوا، قاله الفراء، وابن قتيبة‏.‏ وقرأ عكرمة، والنخعي، وقتادة، وابن يعمر‏:‏ ‏{‏تُخْلَدون‏}‏ برفع التاء ‏[‏وتسكين الخاء وفتح اللام مخففة‏.‏ وقرأ عاصم الجحدري، وأبو حصين‏]‏‏:‏ ‏{‏تُخَلَّدون‏}‏ بفتح الخاء وتشديد اللام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا بَطَشْتُم بَطَشْتُم جبَّارِين‏}‏ المعنى‏:‏ إِذا ضربتم ضربتم بالسياط ضرب الجبَّارين، وإِذا عاقبتم قَتَلتم؛ وإِنما أنكر عليهم ذلك، لأنه صدر عن ظلم، إِذ لو ضَربوا بالسيف أو بالسوط في حَقٍّ ماليموا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عذابَ يوم عظيم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ما عذِّبوا به في الدنيا‏.‏

والثاني‏:‏ عذاب جهنم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136- 145‏]‏

‏{‏قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ‏(‏136‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏137‏)‏ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏138‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏140‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏141‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏142‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏143‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏144‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلا خُلُق الأوَّلين‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي‏:‏ ‏{‏خَلْق‏}‏ بفتح الخاء وتسكين اللام؛ قال ابن قتيبة‏:‏ أرادوا اختلاقهم وكذبهم، يقال‏:‏ خَلَقتُ الحديثَ واختلقتُه، أي‏:‏ افتعلته، قال الفراء‏:‏ والعرب تقول للخُرافات‏:‏ أحاديثُ الخَلْق‏.‏ وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، ‏[‏وخلف، ونافع‏]‏‏:‏ ‏{‏خُلُق الأولين‏}‏ بضم الخاء واللام‏.‏ وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏خُلْق‏}‏ برفع الخاء وتسكين اللام؛ والمعنى‏:‏ عادتهم وشأنهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ قالوا ‏[‏له‏]‏‏:‏ هكذا كان الناس يعيشون ما عاشوا، ثم يموتون، ولا بعث لهم ولا حساب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نحن بمعذَّبين‏}‏ أي‏:‏ على ما نفعله في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 152‏]‏

‏{‏أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ‏(‏146‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏147‏)‏ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ‏(‏148‏)‏ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ‏(‏149‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏150‏)‏ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏151‏)‏ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتُتْرَكُون فيما هاهنا‏}‏ أي‏:‏ فيما أعطاكم الله في الدنيا ‏{‏آمنين‏}‏ من الموت والعذاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏طَلْعُها هَضِيم‏}‏ الطَّلْع‏:‏ الثمر‏.‏ وفي الهضيم سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الذي قد اينع وبلغ، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الذي يتهشَّم تهشُّماً، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الذي ليس له نوى، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ أنه المذنَّب من الرُّطَب، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والخامس‏:‏ اللَّيِّن، قاله قتادة، والفراء‏.‏

والسادس‏:‏ أنه الحَمْل الكثير الذي يركب بعضه بعضاً، قاله الضحاك‏.‏

والسابع‏:‏ أنه الطَّلْع قبل أن ينشقَّ عنه ‏[‏القشر‏]‏ وينفتح، يريد أنه منضمٌّ مكتَنِزٌ، ومنه قيل‏:‏ رجل أهضَمُ الكَشْحَيْن، إِذا كان مُنْضَمَّها، قاله ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَنْحِتُون من الجبال بيوتاً فَرِهِين‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏فَرِهين‏}‏‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏فارِهِين‏}‏ بألف‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏فَرِهِينَ‏}‏ أَشِرِين بَطِرِين، ويقال‏:‏ الهاءُ فيه مبدَلةٌ من حاء، أي‏:‏ فَرِحِين، و‏{‏الفرحُ‏}‏ قد يكون السرورَ، وقد يكون الأَشَرَ، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ أي‏:‏ الأشِرِين، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏فَارِهِينَ‏}‏ فهي لغة أخرى، يقال‏:‏ فَرِهٌ وفارِهٌ، كما يقال‏:‏ فَرِحٌ وفارِحٌ، ويقال‏:‏ ‏{‏فَارِهِينَ‏}‏ أي حاذِقِين؛ قال عكرمة‏:‏ حاذِقِين بنحتها‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُطيعوا أمر المسرِفِين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ المشركين‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هم التسعة الذين عقروا الناقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 164‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏154‏)‏ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏155‏)‏ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏156‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ‏(‏157‏)‏ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏158‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏159‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏160‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏161‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏162‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّما أنتَ مِنَ المُسَحَّرِين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ ممن له سَحْر، والسَّحْر‏:‏ الرِّئة، والمعنى‏:‏ أنت بشر مثلنا‏.‏ وجائز أن يكون من المفعَّلين من السِّحر؛ والمعنى‏:‏ ممن قد سُحِر مَرَّة بعد مَرَّة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لها شِرْبٌ‏}‏ أي‏:‏ حظٌّ من الماء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لها شِرب معروف لا تحضروه معها، ولكم شِرْب، لا تحضر معكم، فكانت إِذا كان يومهم حضروا الماء فاقتسموه، وإِذا كان يومها شَربتِ الماءَ كُلَّه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كانت إِذا كان يوم شربها، شربت ماءهم أول النهار، وسقتهم اللبن آخر النهار‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏لها شُرْبٌ‏}‏ بضم الشين‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأَصبحوا نادمِين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ندموا حين رأوا العذاب على عَقْرها، وعذابهم كان بالصَّيحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 175‏]‏

‏{‏أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏165‏)‏ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ‏(‏166‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ‏(‏167‏)‏ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ‏(‏168‏)‏ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏169‏)‏ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏170‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏171‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏172‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏173‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏174‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏175‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتأتون الذُّكْران‏}‏ وهو جمع ذَكَر ‏{‏مِنَ العالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ من بني آدم، ‏{‏وتَذَرونَ ما خَلَقَ لكم ربُّكم مِنْ أزواجكم‏}‏ ‏[‏قال الزجاج‏:‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏{‏ما أَصلح لكم ربُّكم من أزواجكم‏}‏‏]‏ يعني به الفروج‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تركتم أقبال النساء إِلى أدبار الرجال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل أنتم قوم عادُون‏}‏ أي‏:‏ ظالمون معتدون ‏{‏قالوا لئن لم تَنْته يالوط‏}‏ أي‏:‏ لئن لم تسكت عن نهينا ‏{‏لتكونَنَّ مِنَ المُخْرَجِين‏}‏ من بلدنا‏.‏ ‏{‏قال إِنِّي لعملكم‏}‏ يعني‏:‏ إِتيان الرجال ‏{‏من القالِين‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي من المُبْغِضِين، يقال‏:‏ قَلَيْتُ الرجلَ‏:‏ إِذا أبغضتَه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربِّ نجِّني وأهلي مما يعملون‏}‏ أي‏:‏ من عقوبة عملهم، ‏{‏فنجَّيناه وأهلَه‏}‏ وقد ذكرناهم في ‏[‏هود‏:‏ 80‏]‏، ‏{‏إِلا عجوزاً‏}‏ يعني‏:‏ امرأته ‏{‏في الغابرِين‏}‏ أي‏:‏ الباقين في العذاب‏.‏ ‏{‏ثم دمَّرْنا الآخَرِين‏}‏ أهلكناهم بالخَسْف والحَصْب، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وأَمْطَرْنا عليهم مطراً‏}‏ يعني الحجارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 180‏]‏

‏{‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏176‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏178‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏179‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذَّب أصحابُ الأيكة‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر‏:‏ ‏{‏أصحابُ لَيْكَةَ‏}‏ هاهنا، وفي ‏[‏ص‏:‏ 13‏]‏ بغير همز والتاء مفتوحة؛ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏الأيْكَةِ‏}‏ بالهمز فيهما والألف‏.‏ وقد سبق هذا الحرف ‏[‏الحجر‏:‏ 78‏]‏‏.‏ ‏{‏إِذ قال لهم شُعَيب‏}‏ إِن قيل‏:‏ لِمَ لم يقل‏:‏ أخوهم، كما قال في ‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن شعيباً لم يكن من نسل أصحاب الأيكة، فلذلك لم يقل‏:‏ أخوهم، وإِنما أُرسل إِليهم بعد أن أُرسِلَ إِلى مَدْيَن، وهو من نسل مَدْيَن، فلذلك قال هناك‏:‏ أخوهم، هذا قول مقاتل بن سليمان‏.‏ وقد ذكرنا في سورة ‏[‏هود‏:‏ 94‏]‏ عن محمد بن كعب القرظي، أن أهل مَدْين عذِّبوا بعذاب الظُّلَّة، فإن كانوا غير أصحاب الأيكة كما زعم مقاتل، فقد تساوَوا في العذاب، وإِن كان أصحاب مَدْين هم أصحاب الأيكة، وهو مذهب ابن جرير الطبري كان حذف ذكر الأخ تخفيفاً، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 184‏]‏

‏{‏أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ‏(‏181‏)‏ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ‏(‏182‏)‏ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏183‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏184‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا من المُخْسِرِين‏}‏ أي‏:‏ من الناقِصِين للكَيْل، يقال‏:‏ أخسرتُ الكَيْل والوزن‏:‏ إِذا نقصته‏.‏ وقد ذكرنا القسطاس في ‏[‏بني إِسرائيل‏:‏ 35‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّقُوا الذي خلَقكم والجِبِلَّةَ‏}‏ أي‏:‏ وخَلَق الجِبِلَّة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ واذكروا ما نزل بالجِبِلَّة ‏{‏الأوَّلِين‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن يعمر، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏والجُبُلَّةَ‏}‏ برفع الجيم والباء جميعاً مشددة اللام‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وعاصم الجحدري‏:‏ بكسر الجيم وتسكين الباء وتخفيف اللام‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الجِبِلَّة‏:‏ الخَلْق، يقال‏:‏ جُبِل فلان على كذا، أي خُلق‏.‏ قال الشاعر‏:‏

والموتُ أعظمُ حادثٍ *** ممَّا يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 191‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏185‏)‏ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏186‏)‏ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏187‏)‏ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏188‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏190‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏191‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأسْقِط علينا كِسْفاً‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي قطعةً ‏{‏من السماء‏}‏، و«كِسَفٌ» جمع «كِسْفَة»، ‏[‏كما‏]‏ يقال‏:‏ قِطَعٌ وقِطْعَة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربِّي أعلمُ بما تعلمون‏}‏ أي‏:‏ من نقصان الكيل والميزان؛ والمعنى‏:‏ إِنه يُجازيكم إِن شاء، وليس عذابكم بيدي، ‏{‏فكذَّبوه فأخذهم عذابُ يومِ الظُّلُّة‏}‏ قال المفسرون‏:‏ بعث الله عليهم حرّاً شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إِلى البرِّيَّة، فبعث الله عليهم سحابة أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً، ونادى بعضهم بعضاً، حتى إِذا اجتمعوا تحتها، أرسل الله عليهم ناراً، فكان ذلك من أعظم العذاب‏.‏ والظُّلَّة‏:‏ السحابة التي أظلَّتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏192- 199‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏192‏)‏ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ‏(‏193‏)‏ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏194‏)‏ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ‏(‏195‏)‏ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏196‏)‏ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏197‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ‏(‏198‏)‏ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏199‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنَّه‏}‏ يعني القرآن ‏{‏لَتَنْزِيلُ ربِّ العالَمِين‏.‏ نَزَلَ به الرُّوحُ الأمينُ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏نَزَل به‏}‏ خفيفاً ‏{‏الرُّوحُ الأمينُ‏}‏ بالرفع‏.‏ وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ مشددة الزاي ‏{‏الرُّوحَ الأمينَ‏}‏ بالنصب‏.‏ والمراد بالرُّوح الأمين جبريل، وهو أمين على وحي الله تعالى إِلى أنبيائه، ‏{‏على قَلْبِكَ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ نزل عليك فوعاه قلبك، فثبت، فلا تنساه أبداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَكونَ من المُنْذِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ ممن أَنذر بآيات الله المكذَِّبين، ‏{‏بلسان عربيّ مُبِين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بلسان قريش ليفْهموا ما فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنه لفي زُبُرِ الأوَّلِين‏}‏ وقرأ الاعمش‏:‏ ‏{‏زُبْرِ‏}‏ بتسكين الباء‏.‏ وفي هاء الكناية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى القرآن؛ والمعنى‏:‏ وإِنَّ ذِكْر القرآن وخبره، هذا قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تعود إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل‏.‏ والزُّبُر‏:‏ الكُتُب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكُنْ لهم آيَةً أن يَعْلَمه عُلماء بني إِسرائيل‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏أولم يكن لهم‏}‏ بالياء ‏{‏آيةً‏}‏ بالنصب‏.‏ وقرأ ابن عامر‏.‏ وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏تكن‏}‏ بالتاء ‏{‏آيةٌ‏}‏ بالرفع‏.‏ وقرأ أبو عمران الجوني، وقتادة ‏{‏تكن‏}‏ بالتاء ‏{‏آيةً‏}‏ بالنصب قال الزجاج‏:‏ إِذا قلت‏:‏ ‏{‏يكن‏}‏ بالياء، فالاختيار نصب ‏{‏آيةً‏}‏ ويكون «أنْ» اسم كان، ويكون «آية» خبر كان، المعنى‏:‏ أَوَلَم يكن لهم عِلْم علماء بني إِسرائيل أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حقٌّ، وأن نبوَّته حق‏؟‏‏!‏ ‏{‏آية‏}‏ أي‏:‏ علامة موضحة، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إِسرائيل وجدوا ذِكْر النبي صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏أَوَلَم تكن‏}‏ بالتاء ‏{‏آيةٌ‏}‏ جعل «آية» هي الاسم، و«أن يعلمه» خبر «تكن»‏.‏ ويجوز أيضاً ‏{‏أوَلم تكن‏}‏ بالتاء ‏{‏آيةً‏}‏ بالنصب، كقوله ‏{‏ثم لم تكن فِتْنَتُهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ وقرأ الشعبي، والضحاك، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏أن تَعْلَمَهُ‏}‏ بالتاء‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ بعث أهل مكة إِلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ إِنّ هذا لَزمانُه، وإِنّا لنجد في التوراة صفته، فكان ذلك آية لهم على صِدقه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على بعض الأعجمِين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو جمع أعجم، والأنثى عجماء، والأعجم‏:‏ الذي لا يُفْصِح، وكذلك الأعجمي؛ فأما العجمي‏:‏ فالذي من جنس العجم، أفصح أو لم يُفْصِح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كانوا به مؤمِنِين‏}‏ أي‏:‏ لو قرأه عليهم أعجميّ لقالوا‏:‏ لأنفقه هذا، فلم يؤمنوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏200- 209‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏200‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏201‏)‏ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏202‏)‏ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ‏(‏203‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏204‏)‏ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ‏(‏205‏)‏ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏206‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ‏(‏207‏)‏ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ‏(‏208‏)‏ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏209‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك سلكناه‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏الحجر‏:‏ 12‏]‏‏.‏ والمجرمون هاهنا المشركون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يؤمِنون به‏}‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ كي لا يؤمنوا‏.‏ فأما العذاب الأليم، فهو عند الموت‏.‏ ‏{‏فيقولوا‏}‏ عند نزول العذاب ‏{‏هل نحن مُنْظَرُون‏}‏ أي‏:‏ مُؤَخَّرون لنؤمِن ونصدِّق‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فلمّا أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب، قالوا‏:‏ فمتى هو‏؟‏ تكذيباً به، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَبعذابنا يَسْتعجلون‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتَ إِنْ متَّعناهم سِنِينَ‏}‏ قال عكرمة‏:‏ عُمُرَ الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم جاءهم ما كانوا يُوعَدون‏}‏ أي‏:‏ من العذاب‏.‏ ‏{‏وما أهلكْنا مِنْ قرية‏}‏ بالعذاب في الدنيا ‏{‏إِلا لها مُنْذِرونَ‏}‏ يعني‏:‏ رسُلاً تنذرهم العذابَ ‏{‏ذِكْرى‏}‏ أي‏:‏ موعظة وتذكيراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏210- 212‏]‏

‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ‏(‏210‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏211‏)‏ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ‏(‏212‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنزَّلَتْ به الشياطين‏}‏ سبب نزولها أن قريشاً قالت‏:‏ إِنما تجئ بالقرآن الشياطين فتُلقيه على ‏[‏لسان‏]‏ محمد، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ينبغي لهم‏}‏ أي‏:‏ أن ينزلوا بالقرآن، ‏{‏وما يستطيعون‏}‏ أن يأتوا به من السماء، لأنهم قد حِيل بينهم وبين السَّمع بالملائكة والشُّهُب‏.‏ ‏{‏إِنَّهم عن السَّمْع‏}‏ أي‏:‏ عن الاستماع للوحي من السماء ‏{‏لمعزولون‏}‏ فكيف ينزلون به‏؟‏‏!‏ وقال عطاء‏:‏ عن سماع القرآن لمحجوبون، لأنهم يُرْجَمون بالنجوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏213- 220‏]‏

‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ‏(‏213‏)‏ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏(‏214‏)‏ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏215‏)‏ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏216‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏217‏)‏ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏218‏)‏ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ‏(‏219‏)‏ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏220‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تدعُ مع الله إِلهاً آخر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يحذِّر به غيره، يقول‏:‏ أنت أكرمُ الخَلْق عليَّ، ولو اتَّخذتَ من دوني إِلهاً لعذَّبتُك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَنْذِر عشيرتك الأقربين‏}‏ روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله ‏{‏وأنذر عشيرتك الاقربين‏}‏ فقال‏:‏ «يا مَعْشَر قريش‏:‏ اشْتَرُوا أنفُسَكم من الله، لا أُغْني عنكم من الله شيئاً، يا بَني عَبْدِ مَنافٍ لا أُغْني عنكم من الله شيئاً، يا عبّاسُ بنَ عبد المُطَّلِب لا أُغْني عنكَ من الله شيئاً، يا صفيةُ عَمَّةَ رسولِ الله لا أُغْني عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمةُ بنتَ محمد سَلِيني ما شئتِ ما أُغْني عنكِ من الله شيئاً» ‏"‏ وفي بعض الألفاظ‏:‏ ‏"‏ سَلُوني مِنْ مالي ما شئتم ‏"‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏ غير أنَّ لكم رَحِماً سأبُلُّها بِبلالها ‏"‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏عشيرتَكَ الأقربِين‏}‏‏:‏ رهطك الأدنَيْن‏.‏ ‏{‏فان عَصَوْك‏}‏ يعني‏:‏ العشيرة ‏{‏فقُلْ إِنِّي بَريء مِمّا تَعْمَلون‏}‏ من الكُفْر‏.‏ ‏{‏وتَوَكَّلْ على العزيز الرَّحيم‏}‏ أي‏:‏ ثِقْ به وفوِّض أمرك إِليه، فهو عزيز في نِقْمته، رحيم لم يعجِّل بالعقوبة‏.‏ وقرا نافع، وابن عامر‏:‏ ‏{‏فَتَوَكَّل‏}‏ بالفاء، وكذلك ‏[‏هو‏]‏ في مصاحف أهل المدينة والشام‏.‏

‏{‏الذي يراكَ حين تَقُوم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ حين تقوم إِلى الصلاة، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ حين تقوم من مقامك، قاله أبو الجوزاء‏.‏

والثالث‏:‏ حين تخلو، قاله الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَقَلُّبَكَ‏}‏ أي‏:‏ ونرى تقلُّبك ‏{‏في الساجدين‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ وتقلُّبك في أصلاب الأنبياء حتى أخرجك، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ وتقلُّبك في الركوع والسجود والقيام مع المصلِّين في الجماعة؛ والمعنى‏:‏ يراك وحدك ويراك في الجماعة، وهذا قول الأكثرين منهم قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ وتصرُّفك في ذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏221- 223‏]‏

‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ‏(‏221‏)‏ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏222‏)‏ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أُنَبّئُكم على من تَنَزَّلُ الشَّياطين‏}‏ هذا ردٌّ علهيم حين قالوا‏:‏ إِنما يأتيه بالقرآن الشياطين‏.‏ فأما الأفَّاك فهو الكذّاب، والأثيم‏:‏ الفاجر؛ قال قتادة‏:‏ وهم الكهنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُلْقُون السَّمْع‏}‏ أي‏:‏ يُلْقُون ما سمعوه من السماء إِلى الكهنة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأكثرُهم كاذبون‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الشياطين‏.‏

والثاني‏:‏ الكهنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏224- 227‏]‏

‏{‏وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ‏(‏224‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ‏(‏225‏)‏ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏(‏226‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ‏(‏227‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشُّعراء يتَّبعهم الغاوون‏}‏ وقرا نافع‏:‏ ‏{‏يَتْبعهم‏}‏ بسكون التاء؛ والوجهان حسنان، يقال‏:‏ تَبِعْتُ واتَّبعت، مثل حقرتُ واحتقرتُ‏.‏ وروى العوفي عن ابن عباس، قال‏:‏ كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تهاجيا، فكان مع كل واحد منهما غُواة من قومه، فقال الله‏:‏ ‏{‏والشعراء يتَّبعهم الغاوون‏}‏‏.‏ وفي رواية آخرى عن ابن عباس، قال‏:‏ هم شعراء المشركين‏.‏ قال مقاتل‏:‏ منهم عبد الله بن الزِّبَعْرى، وأبو سفيان بن حرب، وهبيرة ابن أبي وهب المخزومي في آخرين، قالوا‏:‏ نحن نقول مثل قول محمد، وقالوا الشعر، فاجتمع إِليهم غُواة من قومهم يستمعون أشعارهم ويَرْوُون عنهم‏.‏

وفي الغاوين ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الشياطين، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ السُّفهاء، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ المشركون، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تَرَ أنَّهم في كُلِّ وادٍ يَهيمون‏}‏ هذا مَثَل بمن يَهيم في الأودية؛ والمعنى أنهم يأخذون في كل فنّ من لغو وكذب وغير ذلك؛ فيمدحون بباطل، ويذُمُّون بباطل، ويقولون‏:‏ فعلنا، ولم يفعلوا‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين آمنوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لمّا نزل ذمُّ الشعراء، جاء كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، أنزل اللّهُ هذا وهو يعلم أنّا شعراء، فنزلت هذه الآية‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهذا الاستثناء لشعراء المسلمين الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذمّوا من هجاه، ‏{‏وذكروا الله كثيراً‏}‏ أي‏:‏ لم يَشْغَلهم الشِّعر عن ذِكْر الله ولم يجعلوا الشِّعر همَّهم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ وذكروا الله في شِعرهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالذِّكْر‏:‏ الشَِّعر في طاعة الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وانْتَصَروا‏}‏ أي‏:‏ من المشركين ‏{‏مِنْ بَعْدِ ما ظُلِموا‏}‏ لأن المشركين بدؤوا بالهجاء‏.‏ ثم أوعد شعراء المشركين، فقال‏:‏ ‏{‏وسَيَعْلَمُ الذين ظَلَمُوا‏}‏ أي‏:‏ أَشركوا وهَجَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ‏{‏أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏أيَّ‏}‏ منصوبة بقوله‏:‏ ‏{‏ينقلبون‏}‏ لا بقوله‏:‏ ‏{‏سيعلم‏}‏، لأن «أيّاً» وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ إِنهم يَنْقلبون إِلى نار يخلَّدون فيها‏.‏

وقرأ ابن مسعود، ومجاهد عن ابن عباس، وأبو المتوكل، وأبو رجاء‏:‏ ‏{‏أيَّ مُتَقَلَّبٍ يَتَقَلَّبُون‏}‏ بتاءين مفتوحتين وبقافين على كل واحدة منهما نقطتان وتشديد اللام فيهما‏.‏ وقرأ أُبيُّ كعب، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو مجلز، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏أيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُون‏}‏ بالفاء فيهما وبنونين ساكنين وبتاءين‏.‏ وكان شريح يقول‏:‏ سيعلم الظّالمون حظّ من نقصوا، إِنّ الظّالم يَنْتَظِر العِقاب، وإِنّ المظلوم ينتظر النصر‏.‏

سورة النمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ‏(‏6‏)‏ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏7‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏طس‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ وفي رواية أخرى عنه، قال‏:‏ هو اسم الله الأعظم‏.‏

والثاني‏:‏ اسم من أسماء القرآن، قاله قتاده‏.‏

والثالث‏:‏ الطاء من اللطيف، والسين من السميع، حكاه الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏وكتابٌ مبينٌ‏}‏ بالرفع فيهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبُشْرى‏}‏ أي‏:‏ بشرى بما فيه من الثواب للمصدِّقين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زيَّنَّا لَهم أعمالهم‏}‏ أي‏:‏ حبَّبْنا إِليهم قبيح فعلهم‏.‏ وقد بيَّنَّا حقيقة التزبين والعَمَه في ‏[‏البقرة‏:‏ 15، 212‏]‏‏.‏ وسُوءُ العذاب‏:‏ شديده‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم الأخسرون‏}‏ لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إِلى النار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرآنَ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ يُلْقَى عليك فتَتَلَقَّاه أنت، أي‏:‏ تأخذه‏.‏ ‏{‏إِذ قال موسى‏}‏ المعنى‏:‏ اذكر إِذ قال موسى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بشهاب قَبَس‏}‏ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب إِلاّ زيداً‏:‏ ‏{‏بشهابٍ‏}‏ بالتنوين‏.‏ وقرأ الباقون على الإِضافة غير منوَّن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من نوَّن الشهاب، وجعل القبس من صفة الشهاب، وكل أبيض ذي نور، فهو شهاب‏.‏ فأما من أضاف، فقال الفراء‏:‏ هذا مما يضاف إِلى نفسه إِذا اختلفت الأسماء، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلدارُ الآخرة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الشِّهاب‏:‏ النار، والقَبَس‏:‏ النار تُقْبَس، يقال‏:‏ قَبَسْتُ النار قَبْساً، واسم ما قَبَستَ‏:‏ قَبَسٌ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَصْطَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ تستدفئون، وكان الزمان شتاءً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمّا جاءها‏}‏ أي‏:‏ جاء موسى النارَ، وإِنما كان نوراً فاعتقده ناراً، ‏{‏نُوديَ أن بُورِكَ مَنْ في النّار‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن المعنى‏:‏ قُدِّس مَنْ في النّار، وهو الله عز وجل، قاله ابن عباس، والحسن، والمعنى‏:‏ قُدِّس مَنْ ناداه مِنَ النّار، لا أنّ الله عز وجل يَحُلُّ في شيء‏.‏

والثاني‏:‏ أن «مَنْ» زائدة؛ والمعنى‏:‏ بوركتِ النَّارُ، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ بُورِك على من في النار، أو فيمن في النار؛ قال الفراء‏:‏ والعرب تقول‏:‏ باركه الله، وبارك عليه، وبارك فيه، بمعنى واحد، والتقدير‏:‏ بُورِك من في طلب النار، وهو موسى، فحذف المضاف‏.‏ وهذه تحيَّة من الله تعالى لموسى بالبركة، كما حيَّا إِبراهيمَ بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه، فقالوا‏:‏ ‏{‏رحمةُ الله وبركاتُه عليكم أهلَ البيت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 73‏]‏‏.‏

فخرج في قوله‏:‏ ‏{‏بُورِك‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قدِّس‏.‏

والثاني‏:‏ من البَرَكة‏.‏ وفي قوله ‏{‏ومَنْ حَوْلَها‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ الملائكة، قاله ابن عباس، والحسن‏.‏

والثاني‏:‏ موسى والملائكة، قاله محمد بن كعب‏.‏

والثالث‏:‏ موسى؛ فالمعنى‏:‏ بُورِك فيمن يطلبها وهو قريب منها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 14‏]‏

‏{‏يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏10‏)‏ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏12‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّه أنا اللّهُ‏}‏ الهاء عماد في قول أهل اللغة؛ وعلى قول السدي‏:‏ هي كناية عن المنادي، لأن موسى قال‏:‏ مَن هذا الذي يناديني‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏إِنَّه أنا الله‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَلْقِ عصاكَ‏}‏ في الآية محذوف، تقديره‏:‏ فألقاها فصارت حيَّة، ‏{‏فلمَّا رآها تهتزُّ كأنَّها جانٌّ‏}‏ قال الفراء‏:‏ الجانّ‏:‏ الحيَّة التي ليست بالعظيمة ولا بالصغيرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولَمْ يُعَقِّبْ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لم يلتفت، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ لم يرجع، قاله ابن قتيبة، والزجاج‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وأهل النظر يرون أنه مأخوذ من العَقْبِ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يخافون عندي‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ في الموضع الذي يوحى إِليهم فيه، فكأنه نبَّهه على أن من آمنه الله بالنبوَّة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه استثناء صحيح، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل؛ والمعنى‏:‏ إِلا من ظَلَمَ منهم فانه يخاف‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ علم الله تعالى أن موسى مُسْتَشْعِرٌ خِيفةً من ذَنْبه في الرَّجل الذي وَكزَه، فقال ‏{‏إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً‏}‏ أي‏:‏ توبة وندماً، فانه يخاف، وإِني غفور رحيم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه استثناء منقطع؛ والمعنى‏:‏ لكن من ظلَمَ فانه يخاف، قاله ابن السائب، والزجاج‏.‏ وقال الفراء‏:‏ «مَنْ» مستثناة من الذين تُركوا في الكلام، كأنه قال‏:‏ لا يخاف لديّ المرسَلون، إِنما الخوف على غيرهم، إِلا من ظَلَمَ، فتكون «مَنْ» مستثناة‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ في الآية محذوف، تقديره‏:‏ إِلا من ظَلَمَ، فمن ظَلَمَ ثم بدَّل حُسْناً‏.‏

والثالث‏:‏ أن «إِلاّ» بمعنى الواو، فهو كقوله ‏{‏لِئَلاَّ يكونَ للناس عليكم حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَموا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة150‏]‏، حكاه الفراء عن بعض النحويين، ولم يرضه‏.‏

وقرأ أُبيُّ بن كعب، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعاصم الجحدري، وابن يعمر‏:‏ ‏{‏أَلا مَنْ ظَلَمَ‏}‏ بفتح الهمزة وتخفيف اللام‏.‏

وللمفسرين في المراد بالظلم هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ المعاصي‏.‏

والثاني‏:‏ الشِّرك‏.‏ ومعنى ‏{‏حُسْناً‏}‏‏:‏ توبة وندماً‏.‏

وقرأ ابن مسعود، والضَّحَّاك، وأبو رجاء، والأعمش، وابن السميفع، وعبد الوارث عن أبي عمرو‏:‏ ‏{‏حَسَناً‏}‏ بفتح الحاء والسين‏.‏ ‏{‏بَعْدَ سُوءٍ‏}‏ أي‏:‏ بعد إِساءة‏.‏ وقيل‏:‏ الإِشارة بهذا إِلى أن موسى وإِن كان ‏[‏قد‏]‏ ظلم نفسه بقتل القبطي، فان الله يغفِر له، لأنه ندم على ذلك وتاب‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ‏}‏ الجَيْب حيث جِيبَ من القميص، أي‏:‏ قُطِع‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ إِنَّما أًُمر بادخاله يده في جيبه، لأنه كان عليه حينئذ مِدْرَعة من صوف ليس لها كُمّ‏.‏ والسُّوء‏:‏ البَرَص‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في تِسْعِ آيات‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «في» مِنْ صلة قوله ‏{‏وأَلْقِ عصاك‏}‏ ‏{‏وأدخل يدك‏}‏، فالتأويل‏:‏ أظْهِر هاتين الآيتين في تسع آيات‏.‏ و«في» بمعنى «مِنْ»، فتأويله‏:‏ مِنْ تسع آيات؛ تقول‏:‏ خذ لي عشراً من الإِبل فيها فحلان، أي‏:‏ منها فحلان، وقد شرحنا الآيات في ‏[‏بني إِسرائيل‏:‏ 101‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلى فرعون وقومه‏}‏ أي‏:‏ مٌرْسَلاً إِلى فرعون وقَومِه، فحذف ذلك لأنه معروف، ‏{‏فلما جاءتهم آياتُنا مُبْصِرَةً‏}‏ أي‏:‏ بيِّنة واضحة، وهو كقوله ‏{‏وآتَينا ثمودَ الناقةَ مُبْصِرَةً‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 59‏]‏ وقد شرحناه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا هذا‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي نراه عِياناً ‏{‏سِحْرٌ مُبِين‏}‏ ‏{‏وجَحَدوا بها‏}‏ أي‏:‏ أنكرها ‏{‏واستَيْقَنَتْها أنْفُسُهم‏}‏ أنّها مِنْ عند الله، ‏{‏ظُلْماً‏}‏ أي‏:‏ شِركاً ‏{‏وعُلُوّاً‏}‏ أي‏:‏ تكبراً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ وجحدوا بها ظُلماً وعُلُوّاً، أي‏:‏ ترفُّعاً عن أن يؤمِنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله‏.‏